"فورمالين" فايسغلاس لا يبدد قلق يعلون!

عبد اللطيف مهنا

 

أحبولة فك الارتباط الشارونية، أو خطته المعروفة لإعادة الانتشار في غزة, غدت الشغل الشاغل للإسرائيليين هذه الأيام، إذ أصبحت، وقد اقترب الموعد المفترض لتنفيذها، حكاية كل القوى السياسية والإعلامية الفاعلة في الشارع الإسرائيلي، على اختلاف مشاربها ومنطلقاتها وما يحكم مواقفها منها. ويمكن، أيضاً، ملاحظة أن المسألة قد تعدت الإسرائيليين ليتلقف شجونها الكثيرين من العرب، ليردد البعض منهم، بوعي أو بدونه، مع من يردد إيجابياتها المزعومة، من عديد الجهات الدولية المعنية، أو بالأحرى تلك الجهات التي يعنيها بالدرجة الأولى تثبيت إسرائيل في هذه المنطقة وحمايتها ودعم سياساتها، والتي لا تمل التأكيد على مباركتها لهذه الخطوة التي ترى أنها تتم في الاتجاه الصحيح. وإذا كانت هذه الخطة الشارونية، التي ما كانت لتطلق أصلاً إلا للالتفاف على ما دعيت بخارطة الطريق، مع ما لشارون عليها من تحفظات معروفة أسهمت في وئدها والإجهاز عليها في حينه، لم تأت إلا في سياق استراتيجية شارون لإنهاء الصراع ودفن القضية الفلسطينية واستكمال تهويد فلسطين، أو ما عرف إسرائيلياً بغزة مقابل الضفة، فإن تناولها على الصعيدين الدولي والإقليمي يتم فيما يشبه التواطؤ الضمني، أو الإصرار على مواصلة الإيهام بإيجابياتها، باعتبارها في نظر هؤلاء المتناولين لها خطوة لا بأس بها، أو هي أفضل من عدمها، وقد تأتي في المحصلة لصالح احتمالات بعث الروح في رميم ما يدعى بالمسيرة السلمية، حيث تتم معالجتها إجمالاً عبر سيل من الخداع، وتعميم المنطق الملتوي، الذي لا يقنع أحداً، على سبيل المثال، الإيحاء بعلاقتها الغامضة مع تلك الخارطة العتيدة، أو على الأقل أن فيها ما ينبئ بنوايا شارون السلمية المزعومة.

بيد أن لغالبية الإسرائيليين موقفاً آخراً مختلفاً منها، ونقول غالبية الإسرائيليين وسنوضح لماذا نقول ذلك لاحقاً، وهو موقف يمكن وصفه بالسلبي إجمالاً، ويذهب إلى درجة التشكيك حتى في احتمالات إنجازها، وهذا يتجلى بوضوح في ما تثيره الخطة من جدل ولغط في وسائل الإعلام يحتدم أواره بين من يرفضها ومن يؤيدها، والمفارقة هنا أن كلا المعسكرين المعارض والمؤيد تقريباً لا يتورعان في سياق انتقادها عن وصفها بالكارثة، ولعل الأهم في هذا السياق هو ما يؤشر عليه كتاب جديد لمؤلفه لأري شافيت صدر بعنوان "تقسيم البلاد"، هو محصلة مقابلات أجراها الكاتب مع 34 شخصية إسرائيلية ربما هي الأهم من بين قائمة صانعي القرار الإسرائيلي الفعليين من القادة السياسيين والعسكريين والمفكرين، وفي المقدمة طبعاًَ بعض قادة الأجهزة الأمنية السابقين والحاليين. والطريف أن هؤلاء الذين جرت المقابلات معهم كانوا جميعاً، وباستثناء اثنين فقط هما دوف فايسغلاس مستشار شارون والجنرال عيبال جلعادي رئيس ما تدعى إدارة الفصل، أو ما أوكل إليها تنفيذ الخطة، قد أجمعوا على انتقاد الخطوة الشارونية باعتبارها في رأيهم "تقود إلى شيء من الغموض والكارثة القومية"!

بحيث ضاعت في لجة هذا الانتقاد توضيحات فايسغلاس، الذي سبق فأخبر الكاتب منذ وقت ليس بالقريب أن هدف الخطة الحقيقي، الذي يرمي إليه شارون هو "إدخال صيغة الرئيس بوش (حل الدولتين) الفورمالين (مادة لحفظ المواد في المختبرات) لسنوات طويلة، وضمان بقاء المستوطنات في الضفة إلى أن يتحول الفلسطينيين إلى فنلنديين"!

هذا الانتقاد للخطة الشارونية الذي يبدو أنه المجمع عليه إسرائيلياً، أو "فورمالين" فايسغلاس، ليس مرده فحسب هذا الصراع المحتدم حول زعامة الليكود، أو بازار المزايدات بين شارون ومن هم على يمينه، ولا حتى مثيله بينه وبين اليسار من المؤيد للخطة إجمالاً والمشكك في نفس الوقت في نوايا شارون لإتمامها، أو المعترض على بعض تفاصيلها، وإنما يعكس وجود إحساس دفين لدى ساكني هذه الثكنة المدججة حتى الأسنان بكل وسائل الموت بأن أي تراجع للمشروع الصهيوني الذي أقامها، مهما تضائل حجمه، هو يعادل البدء في العد التنازلي لنهاية وجودها، وهذا ما عبّر عنه خير تعبير رئيس الأركان المنتهية مدة ولايته الجنرال موشيه يعلون، أو الذي لم يجدد له، على غير عادة، لخلافة مع وزير الحرب الجنرال شاؤول موفاز حول الخطة ذاتها.

يعلون أو المعروف ببوغي، أو القاتل الحاقد الذي لم يتورع حتى عن إطلاق زخات من الرصاص على جسد القائد الفلسطيني الشهيد أبو جهاد بعد اغتياله، ورغم مفارقته للحياة، أنهى حياته العسكرية الدموية المعروفة والمليئة بالاجتياحات والاغتيالات وهدم البيوت وتجريف المزارع بإعلان قلقه على مستقبل إسرائيل وعدم ثقته في هذا المستقبل في لقاء مع صحيفة عربية. وحيث قال في هذه المقابلة أنه "لو لا القوة لما كانت إسرائيل قائمة"، بشر الإسرائيليين في مقابلة أخرى مع صحيفة هآرتس الإسرائيلية بحرب أبدية مع الفلسطينيين، أي مارس صاحب نظرية كي الوعي الفلسطيني نظريته هذه المرة مع بنى جلدته فقال لهم:

"إننا في تراجع، وفي مقابل ذلك يهاجم الفلسطينيون. لهذا فقد اعتقدت أن مهمتنا هي أن نقيم سوراً في وجههم. وإن نبرهن لهم على أن الإرهاب غير ذي مردود، أجل أن نكوي وعيهم". وعليه وبعد طول تجربة يصارح يعلون الإسرائيليين: "لم ننجح في إقناعهم بالتخلي عن أحلامهم في قضية العودة". ويمضي، وهو المفترض وفق الموقع الذي تركه أنه الخبير الأمني رقم واحد، في تنبؤاته المتشائمة قائلاً:

"ستقول الأيام، أكر ما قلت: يوجد عدم تماثل عكسي. دولة إسرائيل مستعدة لمنح الفلسطينيين دولة فلسطينية مستقلة (...) أما الفلسطينيون فغير مستعدين لمنحنا دولة يهودية مستقلة. لهذا لا يوجد هنا وضع مستقر. لهذا فكل اتفاق نجريه هو نقطة انطلاق للجولة القادمة. لنزاع قادم. بالرغم من ضعفهم العسكري، يشعر الفلسطينيون بأنهم يتقدمون. لديهم  إحساس بالنجاح، أما نحن فنصرف معركة انسحاب وانتظار". كما يمعن في تحذيراته المنصبة على أن الوجود الفلسطيني مهما كان شكلة أو درجة ضعفه هو نقيض للإسرائيلي، مؤكداً بأن الانتفاضة القادمة سوف لن تنجو منها مدن مركزية مثل كفار سابا، بيتح هاتكفا وناتانيا، لأن فك الارتباط لن يغدو حقيقياً و لن يؤدي إلى الاستقرار، بل أن خطته سوف تؤدي إلى هدم منجزات الاحتلال وستعود على إسرائيل بالكارثة... وخلاصة الأمر أن يعلون يرى أن ثلاثة عوامل ستكون القاضية على الحلم الصهيوني لحضها على الوجه التالي:

إن "اندماج الإرهاب والديموغرافيا مع علامات استفهام  لدينا بشأن عدالة الطريق وصفه كي لا تكون هنا في النهاية دولة يهودية".

...إذن المقاومة الفلسطينية ونقطة الضعف الديموغرافية لإسرائيل وانتفاء الإحساس لدى مجتمع قام على الاغتصاب ونفي الآخر بعدالة ما اغتصبه هي عوامل كافية لكي يقلق الإسرائيليون على مستقبلهم ومن ثم ينتقدون حتى فورمالين فك الارتباط.

قد يتساءل متسائل، وما هو الفرق بين رؤيتي اليمين واليسار ممن هم على جانبي فورمالين شارون، وآمل فايسغلاس في تحويل الفلسطينيين إلى فنلنديين؟!

هذا الفرق عبر عنه اثنان، عن اليمين غي باخور وهو مستشرق، كتب في صحيفة يدعوت احرونوت يقول:

"مسيرة أوسلو (من يتذكرها؟!) أخطأت خطأ جسيماً عندما أودعت مستقبل دولة اليهود في يد الفلسطينيين بالذات"..!

إلى أن يستنتج في نهاية مقاله:

"من يبحث عن اتفاق مع الفلسطينيين لن يحصل عليه أبداً، إلا كحل مؤقت"!

والثاني، أو ممن هم على اليسار، هو الكاتب المعروف الون بن، الذي كتب في هآرتس يقول:

"هناك ثلاثة تسويات نهائية للصراع، واحدة فلسطينية سريعة، وأخرى أمريكية مزدوجة الرأس، وثالثة شارونية بعيدة المدى، وكل شيء في الهواء فقط".

ويسخر الوف بن من مواقف الوزير الليكودي عوزي لنداو المعارضة لخطة الفصل قائلاً:

"لو كان لنداو قرأ مقالة محمود عباس في "وول ستريت جورنال" التي نشرت صبيحة لقائه مع بوش لاكتشف أن إسرائيل تقوم ببناء منازل لثلاثين ألف مستوطن في الضفة تحت غطاء إخلاء 7300 منهم في قطاع غزة. هذا يعتبر تعزيزاً وترسيخاً لإدعاء شارون بأن فك الارتباط هو صفقة "غزة مقابل الضفة".

...وأخيراً، يقول إسرائيلي آخر في صحيفة معاريف هو يوسي بن اهارون:

"قال أريئيل شارون أكثر من مرة أنه حتى نهاية السنة العبرية لن يبقى يهود في قطاع غزة. وبنفس الروحية أنا أجرؤ على القول أنه قبل انتهاء عام 2005 لن يكون شارون رئيس حكومة"!

...والمضحك المبكي أنه، بالإضافة إلى كل ما تقدم، أي مدار الجدل الراهن بين الإسرائيليين، وحيث يزعم هؤلاء، طلباً للتمويل الأمريكي، أن عمليات إخلاء المستعمرين وحدها في سياق فك الارتباط تكلفهم فقط سبعة مليارات شيكل، وإنها ستسبب خطراً على المياه الجوفية، وتحتاج إلى 68 يوماً لإنجازها، وسوف يتآكل تأييد الشارع الإسرائيلي لها، إن لم تتوقف المقاومة في غزة... الخ هذه المعيقات المزعومة... نجد بالمقابل أن من بين الفلسطينيين من يطمئن الإسرائيليين عبر الأمريكان: "أوقفنا ثقافة العنف"!!!

  

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع